27.10.10

الرموز لا تتهشم..


الثالثة عصراً...مخيفة دائماً تلك الساعة
تأخذ لي موعداً مع قدري وتوقظ بداخلي الكثير مما أخشى مواجهته
والتعمق في فهمه..

تلك الساعة كانت موعد رحيلك في قطارك الخاص
إلى محطتك المتوقعة..

أنتِ الفتاة المشرقة والأكثر تألقاً..قائدة الحركة الطلابية
قدوتي التي لم اخترها يوماً ولكن تصرفاتها
ومواقفها فرضتها على ساحات المقتدى بهم


اتذكر جيداً بداية معرفتي بكِ عندما حاولوا إخماد الطلاب
في مظاهرة بدأت من كلية الهندسة
وهددوا الطلاب بالضرب
هنا رأيت الفتاة الأشجع في حياتي

جئتِ أنتِ ..ووقفتِ أمام القوات العسكرية التي حاولت اخماد المظاهرة
وقلتِ بكل قوة

"دي كليتي ومش هخرج منها..ومش هسكت
ولا هتنازل عن حقي في الاعتراض..

لو عاوزين تضربوني اضربوا بس انا مش هتحرك"

ظل الذين شهدوا تلك الحادثة يذكرونها حتى اليوم

اعتُقِلتِ وحاولوا كسرك فلم يستطيعوا..لم يروا منك سوى تلك الابتسامة المنتصرة

كنتِ رمزاً..وظللت أنا طوال حياتي مؤمنة بأن الرموز لا تتهشم..
لايحق لها ذلك في هذا الزمن
الرموز هي الأمل الباقي ...

وبرغم ذلك كان يجب أن ادرك بأنك اخترتِ قدرك..
منذ آخر حديث دار بيننا قبل سفرك الأخير إلى لندن
في فبراير 1997

لم تكوني أنتِ يوم قابلتك ولا شخصاً يشبهك حتى..
كنتِ فتاة مجروحة كما لم أرك من قبل..
كالعشاق عندما يتركهم من أحبهم

وكنت لا ادري سبب جرحك..فأنا اعلم أنه لا وجود للحب في حياتك الشخصية
او حباً جاداً كما قلتِ لي:"عندي قلب واحد وهبته لوطني"


قبل أن أراكِ وترينني للمرة الأخيرة جائنا قبلها
بيومين خبر وفاة أحد أصدقائنا ..انتحر لأسباب غامضة ..
وعندما سألت أقاربه في العزاء
أكدوا أنه لم تظهر عليه علامات اكتئاب أو كره للحياة..
فقط هكذا بلا مقدمات


يوم الخميس التالي للخبر في تمام الثالثة عصراً
بعد شحنة إخبارية مثيرة للأعصاب

فكرت في الحصول على بعض الأمل
فحاولت البحث في حقيبة الذاكرة والعبث بنقوشها


وخرجت إلى ملتقى قديم بأحد مقاهي وسط البلد..
حيث كانت التنظيمات الطلابية تتجمع لمناقشة الأحداث الأخيرة..
وصدمني القدر بوجودك في هذا المكان في هذا التوقيت

لم يبدُ أنك كنت تنتظرين أحداً ولم أشعر بترحيبك لرؤيتي
بدوت أكبر سناً بكثير..واخبرتني بسفرك للإقامة في لندن..
العاصمة الأكثر كرهاً

بالنسبة إليكِ أو للفتاة التي عرفتها من قبل

كنت أفكر بانتحار زميلنا بلا مقدمات
و سألتك : هل قضيتنا لازالت وطنية؟ أم تحولت لقضية شخصية؟

لم أُدرك لماذا غرقتِ في صمت طويل ثم..اجبتِ بما لم ارد سماعه

كنت أصدقك ولذا..تمنيت أن تكذبي فقط تلك لمرة
فالحقيقة صارت أسوأ من أن نعلنها والأفضل إخفائها بكذب صامت

- قضيتي أنا لا تزال وطنية..أما عنهم..فلم أعد اعلم..

- إذن لماذا تتركين وطنك لترتمي في أحضان وطن آخر..
كما رحل آخرون ربما بلا عودة؟


شعرتِ بإهانة في سؤالي..وشعرتُ بخطأ في صياغة حروفي
كنت اتعمد استفزازك..لأنني أردتك أن تبقي معي..
لا أريد احتمال وزر القضايا الوطنية وحدي..أردت ان اصرخ بكِ لا تسافري

- أنا لن أجيبك..لكن أخبريني أنتِ
ما الفائدة والرجاء من أن
نشتري وطناً باعنا بأبخس الأثمان فقط لأنه مضاف لياء الملكية"وطني"

ويبيعنا هو في السوق السوداء للسجانين
وسفاحين الأحلام و يضيف ياء الملكية لنا ويقول"شعبي"
ما الفرق؟؟

وما الفائدة من الانتظار في أماكن عكست قوانين الواقع والزمان والمكان؟

بعد أن صرنا شعباً يتضاعف كل عام
ويموت شبابه كل ليلة يأساً وقهراً حتى فقدنا شهيتنا للحياة

فلماذا نتعجب للمنتحرين !!

الحقيقة أنه لم يعد لهذا الشعب توازن بين الموت والحياة..بين الحلم والوهم.
ولا عجب فنحن نسير لا ندري ماذا نريد أو ماذا سنريد..

فصرنا كمن وقف بلا حراك أمام عقارب الساعة
منتظر أن يحدث شيئاً ما خلال..الساعة..أو الدقيقة أو اللحظة المقبلة

أتدرين...؟؟

في وقت الاستعمار كانت أمانينا أجمل..
حملنا هدفنا على أعناقنا وحلمنا...
حلمنا بالتحرير..حتى حققناه

واليوم توقفنا اليوم عن الحلم واصبحنا نستورد حتى أحلامنا!!!
اليوم أصبحت الأحلام تموت في رحم العقل
فلماذا نتكبد عناء الحلم ثانية؟

صمتِ لوهلة وكأنك تحاولين استيعاب الذي حدث
..وتتداركين الصدمة الزمنية ..واستطردتِ :

لقد صرنا متعبون أهلكتنا همومنا الفردية المعقدة
التي تحتاج لمئات الحلول لحل مشكلة بسيطة

نحتاج لأعوام للحكم في قضية ما..ولأعوام أخرى لتطبيق الحكم
حتى الثقافة ..صارت محض ترف..فماذا ننتظر بعد؟؟ ولماذا ننتظر؟؟

صديقتي.. مر عهد الأحلام

لقد حملنا الكفاح سوياً أردنا تحقيق المستقبل وصناعته..
كيف لي أن آراه يُهدم بتلك البساطة أمام نظري؟

الحل بالنسبة لنا هو الرحيل

لذا سأرحل لبلاد استمتعت بطردها من وطني.
وسمحتُ لها بإيواء لأحلامي بعد أن طردني وطني من أحضانه..


.........

انتهى لقائنا
ثم...رحلتِ

سافرتِ دون أن تستمعي إلى ما أردت قوله
رحلتِ وتركتني أقف وبداخلي استفسارات أكثر مما حملت قبل قدومك المفاجيء

اسرعتِ مختفية ثانية وراء جدار الصمت..
وعندما طالعت خبر نعيك وانتحارك من الطابق العاشر
في صيف 1997 بعد سفرك بشهور قليلة..

لم اندهش
لم يكن أي وطن آخر يستطيع احتوائك

كان يجب أن ادرك انك قررت عدم الانتظار ايضاً لترى آمالنا يغتالها آخرون يدعون الوطنية..

فضلتِ الموت لأنكِ فتاة استثنائية لا تطيق الصبر وتتوق دائماً للنهاية..حتى إذا كانت مأساوية

رحلت وحدك وتركتِ عبء قضية بكاملها على عاتقي..ربما ستموت يوماً ما بموتي
وسيدرك الجيل القادم أن الرموز لا يجب لها أن تتهشم..

..